مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر ، فقال: (اتقي الله واصبري) فقالت : إليكَ عني فإنك لم تصب بمصيبتي ! ولم تعرفه ، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتت بابه ، فلم تجد عنده بوابين ، فقالت: لم أعرفك ، فقال صلى الله عليه وسلم : (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) .
لماذا تأخذ المصائب من الناس مأخذها ؟! ولماذا تمس أديانهم وأخلاقهم؟! ولماذا تفقدهم شعورهم وتفكيرهم ؟!
أليس الله تعالى الذي قدر كل شئ ، وكتب كل شئ ، وخلقنا للابتلاء ؟ فمن صبر فله الصبر ، ومن جزع فله الجزع (الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ) [الملك : 1]
إن حياتنا لا تستقيم بلا مكدرات ، ولا تدوم بلا شدائد وابتلاءات ، فهي مخلوقة على ضرر ، ومطبوعة بكدر ! لا تطيب لملخوق ، ولا ينعم بها أحد، وقد علمنا ديننا الصبر على الأقدار ، والرضا بالقضاء والمكتوب ، وأثنى الله على الصابرين المحتسبين ، وخصَّهم برعايته ومعيته ، وجعل مثواهم جنات النعيم.
فلماذا تضجر يا مؤمن من قدر الله؟ ولماذا تجزع لمصيبة الأموال والأنفس؟ آلم تقرأ في القرآن ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر : 49] .
ولم تسمع قوله صلى الله عليه وسلم (وأعلم أن ما أخطاك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، رُفعت الأقلام وجَفّت الصحف) ، وقد ابتلى الله تعالي خير الناس ديناً، وأحسنهم استقامة ، وكان في ذلك لهم مزيد الدرجات ، وتكفير السيئات ، قال صلى الله عليه وسلم : (أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل) .
ولم ينفك من بلاء الدنيا وأنكادها الملوك والأغنياء والعظماء ، فجاءتهم المصائب لتعكر السرور ، وأمتّهم الرازيا لتفسد اللذة، وخالطتهم المرارات ، ولم تبق لهم مسرات ! لماذا؟! إنها الدنيا المزدحمة بالشرور والابتلاءات ، فلماذا الجزع ؟! وقد كرّمك الله بالإسلام ؟! ولماذا التضجّر ، وقد متّعك الله بالقرآن؟!
إنما يجزع يا مسلمون من لا دين له ، وإنما يسخط من لا عقل له ، ولا يقدر الله تعالى للمؤمنين إلا خيراً.
قال صلى الله عليه وسلم : كما في صحيح مسلم : (عجباً لأمر المؤمن أن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) .
لقد شرف الله أهل الإيمان بهذا الحديث، وخصهم بهذه النعمة من بين سائر العالمين ، فها هو الكافر يُبتلى ، فيذهب صوابه ، ويطيش عقله ، وربما انتحر ، قتل قريبه ، أو انتقل لعيادة نفسية ، يتجرع فيها آلام النكد ، وحرارة البلاء.
لماذا صنع ذلك ؟! لأنه لا يعرف الرعاية الحق ، ولا ذاق حلاوة الصبر ، ولا جرّب الرضا بالقضاء ، وحمد الله تعالى على البلاء.
تنزل المصيبة بالمسلم في دينه أو ماله ونفسه فيقول : الحمد لله على كل حال ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرُني في مصيبتي ، واخلُف لي خيراً منها.
فما إن يقولها ، إلا وتنزاح عنه الهموم والأحزان ، ويشرح الله صدره للإيمان، فيذوق لذاذة الصبر ، ويعينه الله على أمره ، ويقضي له حوائجه ويفتح له من الخير ، ما لا يبالي به ، وينزله منازل الصابرين . فهل سمعتم بفضل أعظم من ذلك ؟ (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)
[الزمر : 10] .
إن الصبر منزلة في الدين عظيمة ، وهو مفتاح الخيرات والأفضال، وهو باب واسع إلى الجنة . وإن من أهل الجنة مؤمنين صابرين ، أُتوا في أنفسهم فصبروا ، وابتلوا في أولادهم ، فحمدوا لله ، وامتُحنوا في أموالهم فرحوا وشكروا.
وقالوا : لك الحمد يا ربنَّا ، إن كنت قد أخذت ، فقد أعطيت ، وإن كنت قد ابتليت فقد عافيت ، فلك الحمد الله ما قدرت وقضيت.
(مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد 22-23]
قال ابن عباس رضي الله عنهما يوماً لعطاء : ألا أريك امرأة من أهل الجنة ؟ قلت : بلى قال : هذه المرأة السوداء أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرع ، وإني أنكشف فادع الله لي ، قال : (إن شئت صبرت ولك الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك) قالت : أصبر ، قالت : فإني أتكشف , فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها.
إن ثمة وصايا نافعة ، ووسائل مهمة ، يوصى بها كل مبتلى وحريص، وكل حزين وكسيح ، في زمن قلَّ فيه الدين ، وكثرت فيه البلايا والمشكلات. وإنها لطريق إلى علاج المصيبة وحزنها.
فأولا : أن يقول المؤمن ما أمر الله به عند وقوع المصيبة ، وحصول البلاء . قال تعالى (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ) [البقرة : 155-157] .
وفي صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام (ما من أحد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون ، اللهم أجرُني في مصيبتي ، واخلُف لي خيراً منها إلا أجاره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها )
قال ابن القيم رحمه الله : وهذه الكلمة من أبلغ علاج المصاب ، وأنفعه له في عاجلته وآجلته ، فإنها تتضمن أصلين عظيمين ، إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلى عن مصيبته ، أحدهما : أن العبد وأهله وماله ، ملك لله عز وجل .
والثاني : أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ، ولا بد أن يخلف الدنيا وراء ظهره ، ويجئ ربه فرداً ، فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود.
ثم ذكر ابن القيم من علاج المصيبة أن يعلم المرء علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه . ومن علاجها أن ينظر إلى ما أُصيب به ، فيجد ربه قد أبقى عليه مثله أو أفضل منه ، أو ادخر له.
ومن علاجها : أن يُطفئ نار المصيبة ببرد التأسي بأهل المصائب ، وليعلم أنه في كل وادٍ بنو سعد ، ولينظر يمنه ، فهل يرى إلا محنة ؟ ثم ليعطف يسرة ، فهل يرى إلا حسرة ، وأنه لو فتش العالم لم ير فيهم إلا مبتلى فلماذا الحزن ولماذا طول البكاء والتوجع ؟!!
قال ابن مسعود : لكل فرحة ترحة ، وما مُلئ بيت فرحَاً ، إلا ملئ تَرحا.
وقالت هند بنت النعمان : لقد رأيتنا ونحن أعز الناس ، وأشدهم ملكا ، ثم لم تغب الشمس حتى رأيتنا ، ونحن أقل الناس ، وأنه حق على الله إلا يملأ داراً خيرة ، إلا ملأها عبرة.
ومن علاجها : أن الجزع لا يردها ، بل يضاعفها ، وهو في الحقيقة من تزايد المرض! وسلوا الجزعين ! هل عالج جزعهم مصائبهم ، وهل خفف سخطهم أمراضَهم ، بل ما ازدادوا إلا بلاء ، ولا ازدادوا إلا نكداً وشقاء والفضيلة والسرور للصابرين
اللهم ألهمنا الصبر والشكر ، واجعلنا من عبادك الصابرين .